مخططات إسرائيل لإفراغ غزة- إبادة وتهجير تحت الحصار.

المؤلف: د. عبد الحفيظ السريتي09.06.2025
مخططات إسرائيل لإفراغ غزة- إبادة وتهجير تحت الحصار.

الاحتلال لا يخفي أهدافه الخبيثة من خلال عدوانه المتواصل على قطاع غزة، وهي القضاء المبرم على المقاومة الفلسطينية الباسلة، التي أصبحت تمثل خطرًا حقيقيًا على بقائه ومستقبله الزائف. فنتنياهو وحكومته المتطرفة اليمينية المتشددة لا يرغبون في بقاء أي فلسطيني في غزة، بل يريدونها خالية تمامًا من سكانها وأهلها الصامدين، وهو ما أفصح عنه مرارًا وتكرارًا بعبارات واضحة لا لبس فيها: "لا نريد في غزة لا حماسستان ولا فتحستان"، وهو بذلك يقتبس من قاموس رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين الذي "تمنى أن يستيقظ ذات يوم ليجد البحر قد ابتلع غزة بأكملها".

وهذا التصريح يوضح بجلاء ويؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن جريمة الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال تجري بتخطيط مسبق وتعمد واضح، وأن الفلسطينيين الشرفاء لا يملكون خيارات متعددة، بل يواجهون خيارًا واحدًا ومرًا، وهو الاختيار بين الموت الزؤام أو التهجير القسري المهين، وهو ما يكرره على مسامعنا رأسا التطرف سموتريتش وبن غفير جهارًا نهارًا دون خجل أو وجل.

الحديث المتداول عن محور "موراغ" أو فيلادلفيا 2، ما هو إلا مخطط خبيث يهدف إلى عزل وإطباق الحصار الخانق على المنفذ الوحيد، وقطع شريان الحياة النابض لغزة مع جمهورية مصر العربية الشقيقة. والهدف الأسمى والغاية النهائية هو سعي الاحتلال المحموم إلى نزع شوكة غزة التي أوجعته كثيرًا على مدى العقدين الماضيين، فبالرغم من شراسة العدوان وهمجيته المفرطة، يشعر نتنياهو بالعجز التام أمام مقاومة محاصرة في بقعة جغرافية ضيقة لا تتجاوز مساحتها 365 كيلومترًا مربعًا، لم تجدِ نفعًا معها أكثر من 17 شهرًا بلياليها وأيامها من التدمير الممنهج وقسوة القتل الجماعي الذي استباح كل شيء، فلم يسلم منه الأطفال الرضع ولا النساء العجائز، إذ باتت غزة على وشك أن تقدم ما يقارب 200 ألف شهيد وجريح.

فالاحتلال ماضٍ قدمًا في تنفيذ جرائمه المروعة، ناكرًا كل القوانين والأعراف الدولية التي عجزت عن وضع حد لهذه الحرب الهمجية للإبادة الجماعية المدعومة بسخاء من الإدارة الأميركية التي تعتبر شريكًا أصيلًا لكيان الاحتلال في عدوانه السافر ضد الشعب الفلسطيني الصامد، حيث تمدّه بالسلاح الفتاك والمال الوفير والخبرة العسكرية.

فالاحتلال الذي تحظى بمساندة قوى دولية عظمى، عجز حتى الآن عن تحقيق أهداف عدوانه الشرس، بدءًا من القضاء التام على المقاومة الشريفة ومرورًا باستعادة أسراه المزعومين، لكنه مع ذلك يواصل البحث المضني عن أي شيء من شأنه أن يمكنه من تحقيق نصر ولو كان هزيلًا، يحفظ ما تبقى من ماء وجهه المتلطخ بالدماء وينقذ صورته المهزوزة التي تهاوت في أعين حلفائه قبل خصومه وأعدائه.

صحيح أن محور "موراغ" ليس فكرة وليدة اللحظة، بل يرجع إلى حقبة شارون الذي اضطر مكرهًا إلى الانسحاب من غزة؛ بسبب تصاعد وتيرة الانتفاضة والمقاومة الشرسة من جهة، والتداعيات الخطيرة لاحتلال العراق الذي تحول يومها إلى مستنقع قاتل للإدارة الأميركية. فالأوضاع والظروف تبدلت وتغيرت بشكل كبير، واليوم نتنياهو يملك حرية مطلقة، يبطش بها ويفتك بالفلسطينيين الأبرياء ويعيد رسم معالم القطاع، وتقطيع أوصاله بالشكل الذي يهدف إلى حصار المقاومة والقضاء عليها بشكل نهائي.

وعلى الرغم من التباينات الظاهرية بين إدارة الرئيس ترامب ونتنياهو، فإن مخطط التهجير الأميركي المشؤوم، يظل هو المشروع الذي تدفع باتجاهه حكومة نتنياهو المتطرفة؛ لأنه يعتبر سبيلها الوحيد للاستمرار في عدوانها الغاشم على المقاومة الباسلة، وعموم الشعب الفلسطيني المناضل.

وليس من قبيل الصدفة أن تتلقى حماس بندًا يتحدث عن نزع سلاح المقاومة، وهذا الأمر يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن الاحتلال ماضٍ في الهروب إلى الأمام ويحاول بكل ما أوتي من قوة التملص من تنفيذ بنود اتفاق وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى، ويمضي بخطى حثيثة نحو خلق شروط جديدة، تمنحه غطاء لتشديد الضغوط الخانقة على الفلسطينيين بهدف شق العلاقة الوثيقة القائمة بين المقاومة وحاضنتها الشعبية، حتى يتسنى له تحقيق هدفين في وقت واحد: تفكيك المقاومة والقضاء عليها بشكل كامل، ودفع الأهالي عن طريق ترويعهم وتجويعهم نحو الخروج الاضطراري من غزة إلى وجهات أخرى، خاصة إذا استمر الوضع على ما هو عليه من صمت وتواطؤ دولي مخزٍ.

لا ينبغي بأي حال من الأحوال التقليل من خطورة هذا المخطط الشيطاني الذي يهدف من خلاله نتنياهو إلى تحويل قطاع غزة إلى جيب صغير، تستحيل في ظله الحياة الكريمة.

فكل الإجراءات المتخذة تصب في اتجاه واحد، وهو زيادة حجم الضغوط الهائلة لتحقيق ما عجز الاحتلال عن تحقيقه بالقوة العسكرية الغاشمة. فنتنياهو يسعى جاهدًا إلى جعل رفح بعد تدميرها الممنهج وإفراغها الكامل من سكانها الأصليين وتحويلها إلى مدينة أشباح مهجورة، منطقة عازلة بمساحة تقدر بحوالي 75 كيلومترًا مربعًا، وهو ما يكشف بجلاء عن النوايا الخبيثة للاحتلال وعزمه الأكيد على إعادة فرض سيطرته وهيمنته الكاملة على قطاع غزة.

والحقيقة المرة أن تمركز قوات الاحتلال في مدينة رفح الحدودية مع جمهورية مصر العربية الشقيقة وتحويلها إلى منطقة عازلة، ودفع سكانها الذين يقدر عددهم بحوالي 200 ألف نسمة إلى منطقتي خان يونس والمواصي، هو في حد ذاته يشكل تهديدًا خطيرًا للأمن القومي المصري قبل أن يكون اعتداء سافرًا على حقوق الفلسطينيين.

ما يجري اليوم على أرض فلسطين الأبية من قتل جماعي وتغيير قسري للجغرافيا والديموغرافيا والاستمرار في الاقتحامات المستفزة لساحات المسجد الأقصى المبارك، كلها مخططات خبيثة ترمي إلى تصفية القضية الفلسطينية العادلة. وأمام هذه الحقائق المرة يتساءل المرء بحسرة وألم في ظل الغياب التام للنظام الرسمي العربي والإسلامي: إلى أين نحن سائرون؟

إن الكيان الغاصب لم يعد يتحدث عن فلسطين وحدها، وإنما تجاوز ذلك إلى دول أخرى مثل لبنان وسوريا ومصر والأردن والسعودية والعراق. فالأطماع اتسعت وتجاوزت الحدود، والضعف والهوان الرسمي العربي والإسلامي شجع الاحتلال على استباحة غزة، وها هو اليوم يستقوي بالدعم الأميركي السخي ويتبنى شعارات وأهدافًا خطيرة، يعبر عنها نتنياهو بمقولته الشهيرة: "تغيير وجه الشرق الأوسط"، التي طالما بشر بها صهاينة وأميركيون متطرفون، لكنها على الأقل واجهت مقاومة باسلة عطلت مسيرتها في المنطقة.

أما اليوم فكيان الاحتلال تمكن من الانفراد بالفلسطينيين، قتلًا وتدميرًا وتوسعًا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يحيك ضدهم المؤامرات الدنيئة دون أن يقوى النظام الرسمي العربي على رفع صوته المبحوح، وتفعيل أي من الأوراق الرابحة التي يمتلكها.

إن العودة إلى تقطيع أوصال قطاع غزة وإخلاء مدينة رفح من سكانها الأصليين وإنشاء محور "موراغ" وفصل خان يونس عن مدينة رفح، له هدفان رئيسيان لا ثالث لهما، الأول تهجير السكان قسرًا خارج القطاع وتوطينهم في وجهات بديلة بعد الرفض القاطع الذي أبدته كل من مصر والأردن، والثاني إبادة ما تبقى من رجال المقاومة، وفي سبيل تحقيق ذلك لا يستبعد أن يتم استعمال أسلحة محرمة لتحقيق الهدف الرئيسي للعدوان الذي شنه نتنياهو بدعم أميركي سخي، وهو إزالة التهديد الذي تمثله حركات المقاومة الفلسطينية الباسلة.

فماذا سيحدث لو تحقق هذا السيناريو المرعب؟ حينها يمكن القول بكل ثقة إن الإدارة الأميركية وأداتها الوظيفية إسرائيل ستتمكنان من وضع قواعد جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، وسيكون فيها النظام الرسمي العربي هو الخاسر الأكبر في لعبة الشطرنج القاتلة التي ستكون لها تداعيات خطيرة على الاستقرار والأمن القومي العربي.

إن الانفراد بالمقاومة الفلسطينية وتشديد الحصار الخانق عليها وإرغام سكان غزة الصامدة على تركها، وإقدام الصهاينة على تنفيذ مخططهم الرامي إلى هدم المسجد الأقصى المبارك وإقامة هيكلهم المزعوم، سينقل كل ذلك المشكلة الفلسطينية إلى قلب وعمق البلدان العربية والإسلامية.

لذا، فالمشاريع المشبوهة التي يدبرها نتنياهو وجماعته من المتطرفين، يجب النظر إليها بجدية بالغة باعتبارها تهديدًا حقيقيًا ووجوديًا للبلدان العربية والإسلامية، والخطر الماحق يكمن في أن يكون الوقت قد أوشك على النفاد لاستدراك ما فات، ووقف هذا التدحرج السريع نحو شفير الهاوية السحيقة، إن لم نكن قد سقطنا بالفعل في الهاوية نفسها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة